يتزاحم عليك المشهد وأنت في الجنوب اللبناني الصابر والصامد والمحتسب أمره لله.
وتزدحم عليك الذكريات وأنت تتجول في قراه المهدمة من جهة، لكنها المغمورة بأفراح أساطير الجهاد والفداء التي بنت لهم قصوراً من الفخر والعز الذي يقولون لك ان «رجال الله» أرسوا دعائمها وأقاموا بنيانها على كل تلة وفي كل واد.
وهم إذ يروون لك تلك الحكايات الخالدة يرددون القول بأنه إذا كان البشر هم الذين يصنعون الحجر ويصقلونه، فإن معارك العز والفخار هي التي تصنع الرجال وتصقلهم وترفعهم درجة إلى العلا فتجعلهم رجال الله!
أن تكون في بنت جبيل وفي هذه الأيام بالذات من شهر يوليو المجيد، فإن ذلك يعني أنك في خيمة صانعي حكاية «بيت العنكبوت» ورعايتهم وحماية قبضتهم الفولاذية التي لا تقهر، دون أن تراهم أو تحتك بهم بالضرورة! فأنت إذ ترى وتنظر لا تراهم لأنهم أحرص الناس على التخفي ولا يملكون أي قدر من شهوة حب الظهور التي يعشقها أولئك المدعون والمستعرضون للبطولات حتى الهيام!
لكن الناس كل الناس هنا يعرفونهم جيداً، بل هم مسكونون بعشقهم بلا حدود، فهم من وجهة نظر العامة والخواص من الناس على السواء أقرب ما يكونون إلى «رجال الله» الذين يأتمرون بأوامره ولا يرجون سوى رضاه والذين كلما قيل لهم إن «الناس» ـ أي المجتمع الدولي!» قد جمعوا لكم، كان جوابهم أنهم «لا يخشون إلا الله»، ولسان حالهم يلهج دوماً «حسبنا الله ونعم الوكيل»!
وحكاية «بيت العنكبوت» بدأت في الواقع يوم الرابع والعشرين من مايو 2000 عندما أذعن عدو فلسطين ولبنان والعرب وعدو الحرية في العالم أجمع، أن عليه الرحيل والجلاء من أرض أدهم خنجر وصادق حمزة وعبدالحسين شرف الدين وموسى الصدر وعباس الموسوي، بسرعة البرق قبل أن يتحول جيشه الأسطوري المزعوم إلى أشلاء متناثرة في وديان جبل عامل وعلى تلالها، بفضل تعاظم ضربات المقاومة وتسارع عملياتها الاستنزافية.
ويومها أعلن اللبنانيون اليوم الذي يليه عيداً وطنياً للمقاومة والتحرير، وكان الخطاب الشهير للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في بنت جبيل حيث وصف ذلك الجيش الذي لا يقهر بأنه «أوهن من بيت العنكبوت»! وهو الخطاب الذي كان وقعه على قادة ألوية النخبة من ذلك الجيش المنسحب في حينه كوقع الصدمة أو يزيد، لكنه قرر يومها أن يتجرع العلقم ولو إلى حين!
وجاءت مأمورية حرب يوليو العام الفائت والتي انيطت بهم من قبل المنهكين من المحافظين الجدد في العراق، فإذا بهؤلاء القادة الذين «لعقوا» علقم خطاب السيد الذي لا يلين، يلاحظون من جديد بأن حكاية «بيت العنكبوت» راحت تتكرر معهم أيضاً، ولكن هذه المرة بوقع أشد! كما فوجئوا بأن الدعم والإسناد الذي هيئ لهم هذه المرة وبإجماع ما يسمى بـ «المجتمع الدولي»، ليس بإمكانه إنقاذهم، لا من وحشة السير في وادي الحجير كما لم يحم دبابات الميركافا التي صنعت خصيصاً لحمايتهم! فإذا بهم يفشلون على مدى 33 يوماً في إنجاز المهمة التي حضروا وخططوا من أجلها.
هذا الفشل المتكرر لقادة النخبة من قادة الجيش الذي لا يقهر، هو الدافع من وراء الاحتفال الجماهيري الذي نظمه أهالي بنت جبيل المحررة هذا العام من جديد، وفي نفس المكان الذي كان قد خطب فيه السيد الذي لا يلين في العام 2000، فكان خطاباً مجلجلاً مرة أخرى أكد فيه للناس، كل الناس، وللعدو كما للصديق، بأن الرهان على جيش النخبة الذي لا يقهر لا يزال رهاناً خاسراً على جيش هو حقاً أوهن من بيت العنكبوت!
وأنه لو حاول مجدداً الاعتداء على بيوت الناس فإنه سيلقى نفس المصير الذي لقيه في صيف العام الماضي إن لم يكن أشد وأقسى!
لا شك أنها حكاية معبرة وطريفة في الوقت ذاته! فبعد سبع سنوات عجاف على قادة جيش النخبة لم يتمكن هؤلاء المدعومون من أعتى امبراطورية عرفها التاريخ الحديث، بل ومن كل أطراف المجتمع الدولي «الأعمى» كما وصفه السيد الذي لا يلين، ليس فقط من أن ينتقموا لـ «شرفهم» العسكري الذي «مرمغه» بالتراب ثلة من المجاهدين الصابرين والمحتسبين في العام 2000، بل ها هم قد كرروا «الحكاية» نفسها، وهذه المرة بطريقة كوميدية أثارت سخرية حتى الرأي العام الإسرائيلي نفسه.
والذي لا يزال يتندر بهذه «الحكاية»! لا بل إنها انقلبت إلى ضدها في الجانب المقابل، بعد أن تحولت إلى أسطورة «السيد الذي لا يقهر»! كما أخذت تتردد على ألسنة الناس عامة، وذلك في إشارة رمزية معبرة عن صلابة وعزم وإرادة من يفضلون أن يطلقوا عليه هنا «سيد المقاومة الذي لا يقهر» وصانع النصر المبين للعرب كما للمسلمين، فضلاً عن اللبنانيين وسائر أحرار العالم المنصفين!
الناس هنا، كل الناس لا حديث لهم يتندرون به إلا حكاية «بيت العنكبوت» ولا أسطورة يتغنون بها إلا أسطورة «السيد الذي لا يقهر»! لقد نسوا آلامهم ومعاناتهم التي رافقتهم لعقود وصاروا لا يخافون الحروب ولا تهديدات العدو الرابض على الحدود، فهم «يتشرجون» كل بضعة أيام بدفعة جديدة من الطاقة الحرارية العالية والإرادة الفولاذية التي ينفخها فيهم سيد المقاومة عبر خطاباته الجياشة والباعثة على الأمل وقرب الخلاص.
حتى انهم صاروا يعدون عمر العدو الرابض فوق صدورهم بعدد أصابع اليدين! وبالتالي فإن خشيتهم من بطشه في ظل احتمال عودته للمجازفة بأي حرب أو عدوان ضدهم، باتت أقرب ما تكون إلى النكتة منها إلى الواقع. ذلك أنهم غدوا مسكونين بحكاية «بيت العنكبوت» التي بها يتندرون وأسطورة «السيد الذي لا يقهر» التي بها يتغنون ويتفاخرون!
في حقول التبغ ومزارع الزيتون والكروم وبساتين التفاح، حيث تحرث سواعد الفلاحين وتتلاحم مع سواعد المجاهدين والفدائيين هنا حتى لتكاد تفقد القدرة على التمايز أو التمييز بين الجهاد من أجل الرزق والجهاد من أجل الدفاع عن الأرض والعرض والكرامة والشرف، لا مكان لرموز السياسة التقليديين ولا مكان لمدن الرنين والطنين ومدن البهرجة والحداثة والحداثيين.
إنه الرهان على الأسطورة التي لابد أنها ستهزم الحكاية مهما تكرر النزال!
إنه الرهان على الإيمان الذي لابد أن يهزم الشر مهما علا وتجبر.
الكاتب: محمد الحسيني